«8» الايمان في مفهوم كوني
أود اضافة إلى ذلك، معالجة الفكرة من زاوية اخرى، هي عالمية الدين. واظنها سوف تساعد في توضيح ما أرمي اليه. واشير في هذا الصدد إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: ان محور الرسالة الالهية هو تمكين البشر من بلوغ اعلى درجات الكمال الممكن، من خلال مساهمة كل منهم، كأفراد أو كجماعات، في تسخير الطبيعة وعمران الارض. فكل عمل يسهم في تحقيق هذه الغاية، اي ارتقاء الانسان أو عمران الارض، يعتبر استجابة للرسالة، أي طاعة لله - بحسب التعبير المتعارف -.
الثانية: نؤمن من حيث المبدأ بان رسالة الله ليست لأهل بلد دون بلد، ولا لقوم دون آخرين. بل هي موجهة إلى جميع البشر في كل زمان ومكان. كونها لجميع البشر، يعني ان كلا من هؤلاء شريك في حملها وتطبيقها وتحقيق غاياتها وتطوير مفاهيمها وتطبيقاتها، في جانب واحد أو في جوانب متعددة. هذا يعني احترام تجارب البشر في أي مكان كانوا، وبأي دين أو مذهب دانوا.
كل من هذه التجارب لبنة في عمران الأرض، وكل فرد من سكان الكوكب شريك فيها. بعبارة أخرى فإن التفكير في الدين كرسالة كونية متفاعلة مع الناس جميعا، يعني أن الأفكار والآراء التي توصل إليها البشر خلال تاريخ الإنسانية الطويل، لا ينبغي أن تعامل كشيء ''أجنبي'' عن الدين أو غريب. بل باعتبارها ثمرة لتطور الوعي الإنساني في الكون ونظامه، وهذا تمهيد لا غنى عنه لفهم فكرة ''تسخير'' الطبيعة، التي عرضها القرآن الكريم كواحدة من أعظم نعم الخالق سبحانه وكضرورة لعمران الأرض والارتقاء بحياة البشر.
احترام تجارب البشر ونتائجها، يعني القبول بإدراجها ضمن نسيج القيم التي تحظى بمكانة دينية، أو تحظى بتقدير لا ينفك عن تقدير الضرورات الحياتية وما ينتجه الإنسان على أرضية الدين. لا عيب في الأخذ بأي مبدأ أو منتج فكري أو تقني، طالما كان يجسد أو يخدم القيم العليا التي أقرها الدين أو جاء بها.
جوابهم على ذلك ان الوجوب والتحريم الديني قصر على ما ثبت بالنص. اما ما ثبت بالعقل مستقلا، فربما يترتب عليه حكم عرفي أو أخلاقي. وهذه القاعدة تعالج الاعراف والقوانين الضرورية لحياة المجتمع، بحيث تمنع خرقها بحجة انها بدعة أو الزام من دون مبرر. من ذلك مثلا قوانين المرور والمالية والبناء، وغير ذلك من القوانين التي تخلق الزامات مادية أو معنوية. فهذه جميعا يمكن فرضها تحت تلك القاعدة. ولا يمكن لأحد ان يخرقها بحجة انها خلاف الشرع أو لم يرد فيها نص شرعي.
أما الموضوع الذي نتحدث عنه فيقع ضمن إطار منهجي مختلف. فهو يعالج سؤال: هل التجربة الدينية قصر على ما صنفه فقهاء المسلمين كعبادات أو معاملات في كتب الفقه، ام تشمل ايضا كل عمل يصنفه العقلاء كخير للبشر واسهام في انجاز غايات الدين. وهل القيمة الدينية للفعل مشروطة بنية التقرب إلى الله، أو بجريان الفعل ضمن الدائرة الاجتماعية للمسلمين أو صدوره عن شخص مسلم، ام ان تلك القيمة تتسع لتشمل كل فعل حسن، لأن الحسن والقبح جزء من ذات الفعل، سواء كان مسبوقا بنية التقرب لله ام لا، وسواء صدر عن مسلم ام لا، ضمن الإطار الاجتماعي/المعرفي الاسلامي ام خارجه. نحن اذن نتحدث عن ”قيمة مطلقة“ وليس عن الزام شرعي أو قانوني.
الجدل حول هذه الاشياء يشير إلى اشكالية مهمة، تتلخص في تقديرنا لقيمة ما ينتج خارج الإطار الاجتماعي أو المعرفي الاسلامي. لو اعتبرنا التجربة البشرية واحدة، كما ان رسالة السماء واحدة، واعتبرنا ان البشر جميعا شركاء في عمران الكوكب بمثل ما هم شركاء في حمل رسالة الله، عندئذ سوف ننظر للفكرة أو الفعل كموضوع بحث مستقل عن صاحبه أو جنسيته.
اعلم ان المسألة اعقد من هذا. هناك دائما علاقة بين المنطلق الفكري والإطار الثقافي / الاجتماعي وبين المنتج الفكري أو التقني. لكني أحاول ايضاح المسار الرئيس للنقاش. واعتقد ان الانطلاق من وحدانية التجربة / وحدانية العالم سوف يجعلنا اقدر على الاسهام في تطوير التجربة الانسانية، وبالتالي في تحقيق غايات الرسالة الالهية، سواء ظهرت نتائج هذا العمل في بلاد المسلمين ام في بلدان أخرى. فما يهم في حقيقة الامر هو تحقيق غايات الرسالة وليس صفة الفاعل أو موقعه من الكوكب.