«22» الهوية الفردانية
خطاب التنظيمات الاسلامية الحديثة ليس حديثا في المضمون. فمعظمه اعادة انتاج الثقافة السائدة، ولكن في اتجاه مضاد، أو على الأقل متخارج. تتبنى الجماعات الدينية نفس المفاهيم التي يؤمن بها المجتمع، لكنها تستعمل اصول الفكرة في الحكم على المجتمع والسعي لتسخيره وارغامه. واظن ان تقبل الشباب لهذا الخيار، رغم انه يبدو عفويا وتدريجيا وليس بالضرورة واعيا، هو - بصورة من الصور - رد على محاولة الارغام والقولبة القسرية التي قام بها المجتمع في وقت سابق. وذكرت في ذلك المقال ان سعي الفرد لتشكيل هوية مستقلة عن المجتمع، سيقوده غالبا الى التعصب، لأن عملية التشكيل انطلقت من حالة صراع مع المجتمع أو تمرد عليه. وهذا يكشف أيضا أحد تجليات صراع الأجيال.
ولأن معظم المجتمعات المسلمة يعيش حالة توتر داخلي، سببه الاول هو الصراع مع الحضارة الغربية، والشعور بالفشل في منافستها او التحرر من الحاجة اليها، فان صورة الدين التي تنتقل الى الجيل الجديد، هي ذات الصورة المحملة بتلك الأعراض. التعصب هو واحد من ردود الفعل الواعية او العفوية على عجز الفرد عن التكيف مع العالم المتغير المحيط به. والتوتر المشار اليه هو الظرف الذي ينعكس فيه الجدل حول التكيف او المشاركة او القطيعة او المنازعة. من هنا استطيع القول انه ليس كل تربية دينية تؤدي الى التعصب، وليس كل تمرد على الواقع يتمظهر في شكل تعصب. لكن بعضها يقود اليه بالتاكيد.
بالنسبة للتنميط فله مسار آخر، وهو من السلوكيات الطبيعية التي تقوم بها كل المجتمعات، لكنها تتخذ اتجاها سلبيا مع تفاقم النزاعات السياسية. التنميط عملية ذهنية هدفها تبسيط العلاقة بين الذات والآخر وتحديد المسافة بينهما. وهي تحصل عادة على مستوى جمعي. حيث تقوم الجماعة بصورة واعية او عفوية بتشكيل صورة نهائية عن ذاتها، وصورة أخرى عن كل واحد من الأغيار، هذه الصورة تتحول الى معيار لفهم الاخرين والحكم عليهم، اي تحديد المسافة بين الذات والآخر. العربي يشكل صورة ذهنية عن الاوربي والهندي والامريكي يشكل صورة عن الروسي والياباني.. الخ.
في السنوات الأخيرة لاحظنا تفاقم الدعوة الى التمايز داخل المحيط الاسلامي. وهي دعوة تتضمن احياء او تعديل صور نمطية قديمة، او تصنيع صور نمطية جديدة، في كل جماعة تجاه الجماعات الاخرى. والمؤسف انها في الغالب صور سلبية. لعل اسوأ ما في التنميط انه يبطيء الوعي بالعالم او يشوهه، ويجعل من العسير فهم الواقع الذي تعيش فيه، وهو واقع ذو طبيعة تعددية، لا تستطيع فهمها ان استسلمت للصور النمطية التي رسمتها الجماعة عن غيرها.
هناك بالطبع أمثلة اقل تطرفا. وقد تحتمل التداخل بين العدواني وغير العدواني. وكان المقصود من حديثي هناك هو الاشارة الى الهويات التي يختارها الفرد بخلفية عدوانية، اي يختارها لانها تسمح بتأطير أو تبرير ميوله العدوانية. الفصل بين محتوى الهوية والميول الفردية المسبقة، يسمح بفهم الطبيعة المزدوجة للهويات التي تنطوي على مضمون تعددي، قد يستخدمه فريق من حامليها كمبرر للعدوان على شركائهم فيها، فضلا عن غيرهم، كما هو حال الجماعات الدينية التي تكفر مؤمنين آخرين يخالفونها في مواقف سياسية او اجتهادات دينية.
ليس كل الهويات الانكماشية او الطائفية تحمل مضمونا عدوانيا بهذا الوضوح. لكن يمكن القول بشكل عام ان اختيار الفرد لهويته او سعيه الى هوية خاصة قد يكون مدفوعا برغبته في مشاركة البشر عموما في عمران الارض، وقد يكون مدفوعا برغبته في الاستئثار او حتى السيطرة على الغير واستثمارهم او استعبادهم. وبين هذين الحدين ستجد الوانا من الهويات والميول.
دعنا اذن نضع خطا مستقيما في طرفه الاقصى هوية استعلاء وفي الطرف الثاني هوية مشاركة. دعنا نفترض ان الفرد يقف عند نقطة في وسط الخط تماما. فاذا تحرك باتجاه هذا الطرف فانه يكشف عن ميوله الداخلية ولنقل الانفصالية وصولا الى العدوانية، واذا تحرك باتجاه الطرف الثاني فهو يكشف عن ميوله التفاعلية والتشاركية مع الغير وصولا الى الهوية الكونية، التي تجعله متحررا من كل قيد يشده الى جماعة صغرى أو هوية أدنى من الكونية.
حين يكون الفرد رئيسا للدولة ويتخذ قرارا منفردا، فان هذا لا يعبر عن الفردانية، بل يعبر عن ميل داخلي للاسئثار والعدوان على الغير، لان الرئيس في هذه الحالة يدير جهازا يملكه اخرون، وعليه ان يتبع رايهم ويخدم مصالحهم، بحسب النظام الذي يسمح بمشاركة اصحاب الملك «المواطنين». الدولة ملك مشترك، مثل سائر الاملاك المشتركة العادية. ولا يستطيع احد ان يبرر تحكم فرد في املاك غيره بحجة استقلال الفرد او قيمة الفردانية، والا اصبح العالم غابة.