«40» الدولة كموضوع فقهي
لماذا اذن نعقد مناقشة فقهية للمسألة؟. الجواب: قصدت في هذا الكتاب ”نظرية السلطة في الفقه الشيعي“ مناقشة مسألة فقهية محددة، هي نظرية ”ولاية الفقيه“ المعروفة، وليس مناقشة مسألة الدولة ككل. حين تناقش نظرية في موضوع أو قضية محددة، فعليك تحديد الاطار المنهجي للنقاش. وقد اخترت مناقشة النظرية في نفس الاطار المنهجي الخاص بها، اي الفقه الشيعي.
الرأي الأول يقول أن السلطة شأن ديني في الاصل باعتبارها مصلحة عامة ضرورية. لكن اهتمام المشرع بها مركز على وظائفها وليس شكلها أو طريقة إنشائها. ما يريده الدين من الدولة هو ان تكون مقيمة للعدل، حامية لحقوق الناس، بغض النظر عن شكلها. لأن الشكل والكيفية والأولويات أمور عرفية ترجع للمسلمين في كل زمن ومكان. ويذهب الى هذا الرأي عدد من الفقهاء البارزين مثل آية الله منتظري، الذي يعتقد ان قبول الناس ورضاهم الصريح والنظامي شرط لأي ولاية سياسية، بما فيها ولاية الرسول والأئمة المعصومين. ويميز في هذا المجال بين الولاية الدينية الثابتة بالنص والولاية السياسية التي تتوقف على البيعة العامة الصحيحة الاركان.
ويبني منتظري هذا الرأي على فرضية أن حاكمية الله مودعة في الأمة، والأمة تفوضها إلى من تشاء. وبناء عليه فهو يعطي للأمة حقا مطلقا في فرض ما تشاء من الشروط على الحاكم، لجهة تعيين مدة الحكم آو كيفيته أو نظام عمله الخ. أما آية الله صانعي فلا يجيز حتى إمامة الصلاة للفقيه، إذا كان الناس غير راضين به، فضلا عن رئاسته للدولة. وهذه الآراء قائمة على أرضية أن السلطة حق للناس، وإنهم يقررون الشكل المناسب لحياتهم في كل عصر. والشرط الوحيد هو أن يكون ذلك في إطار المفاهيم العامة للشرع، وليس بالضرورة فتاوى فقيه معين في زمن معين. صفة الاسلامية في هذا الرأي تتولد عن قيام الدولة بالاهداف العليا التي يريدها الدين، سيما العدل ورضا العامة.
الرأي الثاني فحواه أن الشريعة حددت نموذجا خاصا للحكم الديني هو إمامة المعصوم. وهذا النموذج منصوص عليه، فلا يمكن تغييره. وهو لا يرجع للناس بل للشارع المقدس. وهو مصلحة دينية وليس مصلحة عرفية. وفي غياب المعصوم فان نائبه هو القائم مقامه، وله جميع سلطات المعصوم وصلاحياته. وهذا هو الأساس في نظرية ولاية الفقيه. ويستدل أصحاب هذا الرأي عليه بجملة من النصوص العامة، فضلا عن أدلة عقلية. وبناء عليه فان الدولة تتصف بوصف الاسلامية اذا تولى قيادتها من اعتبره الشارع أولى الناس بهذا الدور.
الراي الثالث يجادل أن السلطة ليست شأنا دينيا، بل هي أمر عرفي عقلائي تركه الشارع المقدس للناس، مثل سائر الأمور العرفية. والمرجع العلمي للبحث في مسألة السلطة ليس الفقه بل الفلسفة السياسية. وفيما يتعلق بدور الدين في النظام السياسي، فان هذا الرأي يوجب على الدولة الالتزام بالقيم العامة للدين، والتي لا يختلف عليها العقلاء في كل العصور والأديان، مثل قيمة العدالة والمساواة وقيمة النظام وعمومية القانون. هذا الرأي يشبه الرأي الأول الى حد كبير، لكنه لا يفترض التزام الدولة بآراء الفقهاء، بل بالقيم العليا للدين.
بكلمة أخرى فهو ينظر إلى جوهر فكرة الدولة، فيقرر انها شأن عقلائي اقره الدين، وليست من ابتكاراته. أما كيفية الإدارة وممارسة الحكم فهو يرجع إلى توافق المجتمع أو ما يسمى بالإرادة العامة. أما اتصاف الحكم بالإسلامي أو غيره فهو يرجع إلى قبول المجتمع له على هذا النحو، أي انه نسبة إلى المجتمع وليس إلى النظرية.